كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإذا احتمل الأمرين، فليس قوله: أو أعرض عنهم، نصا حتى يحتاج إلى طلب نسخه، فعلى هذا ينبغي أن يقال: يجب على الإمام أن يحكم بينهم.
ويحتمل أن يقال: من حيث إنهم لا يؤاخذون بأحكام الإسلام وتفاصيل الحلال والحرام، يجوز للإمام أن لا يحكم بينهم أصلا.
وروي عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}، إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبني النضير، وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة، وأن بني قريظة يدون نصف الدية، فتحاكموا في ذلك إلى رسول اللّه، فأنزل اللّه تعالى الآية فيهم، فحملهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم على الحق في ذلك، فجعل الدية سوى، وأن بني قريظة والنضير ما كان لهم ذمة أصلا. وقد أجلاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وأهل الذمة لا يجوز ذلك فيهم، وبنو قريظة قتلوا عن آخرهم لما نزلوا على حكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، وليس في أصحابنا من يفصل بين المعاهد والذمي في هذا المعنى، فالأقرب أن يقال: إن الحكم في الجميع سواء.
وروي عن ابن عباس رواية أخرى.
وعن الحسن وعن مجاهد والزهدي أن الآية وهي قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ}، نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهم أيضا لم يكونوا أهل ذمة، وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم، فصار النبي عليه الصلاة والسلام إلى بيت مدارسهم ووقفهم على آية الرجم، وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب اللّه تعالى، ورجم اليهوديين وقال: أنا أولى من أحيا سنة أماتوها، وهذا يدل دلالة تامة على جواز رجم اليهود خلافا لأبي حنيفة، ويدل على أن أهل الذمة محمولون في عقودهم وقضاياهم على موجب أحكام المسلمين كالمسلمين، ويدل أيضا على أن الخمر ليست بمضمونة على متلفها، ولا أنها مال من أموالهم، لأن إيجاب الضمان على متلفها حكم على موجب أهواء اليهود، وقد أمرنا بخلاف ذلك.
نعم، لا نتعرض لهم في خمورهم ولا في مناكحتهم الباطلة، وقد فتح عمر سواد العراق، وكان أهلها مجوسا، ولم يتعرض لمناكحتهم الواردة من قبل على بناتهم وأخواتهم، ولا فرّق بينهم.
وتحقيق القول فيه، أن إعراضنا عن ذلك مع علمنا بوجود المحرم لضرب من المصلحة، غير أن المصلحة منقسمة إلى مصلحة روعيت في حق مرتكبي المحرمات بمنعهم منها، وبزجرهم عنها، مثل النهي عن المنكرات في حق المسلمين، وهذا لم يشرع في حق أهل الذمة، فإذا عرفنا يقينا أنهم في بيعهم يقولون ما يقولون، فلا يتعرض لهم لمصلحة تعود إلى أهل الإسلام من وجه، وإلى أهل الذمة من وجه آخر.
فأما ما يرجع إلى أهل الإسلام فلا خفاء به.
وأما الذي يرجع إلى أهل الذمة، فهو أن البغية بعقد الذمة تقبيح سنن رشادهم، حتى إذا شاهدوا من آيات اللّه تعالى والأعلام على نبوة نبينا وخالطونا، انفتحت بصائرهم وقرب الأمر في استجابتهم، ولو لم يعقد لهم عقد الذمة، نفروا واستكبروا ولم يتحقق اللطف الذي يؤمن به قرب إجابتهم، فهذا هو السبب في تقريرنا إياهم وترك الإنكار عليهم. هذا إن عللنا.
وإن لم نعلل قلنا: الأصل أن لا يقرون ويمنعون إلا حيث أرخص الشرع فيه، وقد أرخص في تدك النكير في نكاح المحارم وغيره من المحظورات، فهذا تمام هذا الفن.
فإذا ثبت ذلك، فقد كان في ابتداء الإسلام مخيرا في أن يحكم بينهم أو يعرض عنهم، ثم صار ذلك منسوخا، ونفي الإعراض في غير ما تحاكموا إليه فيه، وقبل ذلك كان الإعراض جائزا فيما تحاكموا إليه فيه، وقد قال أبو حنيفة: إذا ترافعوا إلينا وقد جرى النكاح في العدة، فلا يعترض عليهم في الدوام، ومعلوم أن أول النكاح في العدة لم يكن على نحو ما يجوز في الإسلام، إلا أنهم يرون مانع العدة مختصا بالابتداء، وهو عذرهم في الشهادة، وهذا يقتضي أن ما جرى في الشرك مجري على مقتضى اعتقادهم، فإذا كان كذلك، فإذا تزوج خمسا دفعه وماتت الخامسة في الشرك يجب ألا يعترض على النكاح، لأن النكاح إنما امتنع دواما لوجوب قطع البعض، فإذا ماتت الخامسة لم يبق مانع في الحال، غير أنكم جعلتم ما مضى مانعا، فهلا كان هاهنا كذلك، وهذا لا جواب عنه.
قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها} الآية.
معناه فيما تحاكموا إليك في حد الزانيين، وأنهم لم يتحاكموا إليك طلبا لحكم اللّه تعالى، وإنما تحاكموا إليك لطلب الرخصة، وما أولئك بالمؤمنين بحكمك أنه من عند اللّه مع جحدهم لنبوتك.
وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ}، يدل على أن حكم التوراة فيما اختصوا فيه لم يكن منسوخا، وأنه صار بمبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم شريعة، ما لم ينسخ، لأنه لو نسخ لم يقل بعد النسخ إنه حكم اللّه.
وقد استدل قوم على أن شرع من قبلنا يلزمنا، وهذا لا وجه له، فإن قوله: فيها حكم اللّه، ليس يدل على أن كل ما فيها حكم اللّه، بل قد نسخ بعضها، وإنما يدل على أن فيها حكم اللّه ونحن نقول بذلك الحكم، وذلك الحكم هو الرحيم الذي اختصموا فيه إليه من جهة الزاني.
قوله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}.
استدل قوم به على قتل المسلم بالذمي والحر بالعبد، وهذا لو ثبت لهم أن شريعة من قبلنا تلزمنا.
وبعد فقوله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها}، ليس فيه عموم، ولم يثبت أن كلم اللّه تعالى في حق الواحد من شريعة من مضى حكم في حق أهل شريعتنا كما ثبت ذلك بدليل قاطع في شريعتنا.
ومن وجه ثالث، وهو أنه لم يثبت عموم شريعة التوراة لأصناف الخلق، كما ثبت أن نبينا صلّى اللّه عليه وسلّم بعث إلى الخلق كلهم.
الرابع أنه تعالى قال: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}، فكان ذلك مكتوبا على أهل التوراة، وهم أهل ملة واحدة، ولم يكن لهم أهل ذمة، كما للمسلمين أهل ذمة، لأن الجزية فيء وغنيمة أفاءها اللّه على المؤمنين، ولم يحل الفيء لأحد قبل هذه الأمة، ولم يكن نبي فيما مضى مبعثا إلى قومه، فأوجبت الآية الحكم على بني إسرائيل، إذ كانت دماؤهم تتكافأ، فهو مثل قول الواحد منا:
وما في الدنيا سوى المسلمين النفس بالنفس.
وتشير إلى قوم تعيين فتقول:
الحكم في هؤلاء، أن النفس بالنفس.
فالذي يجب بحكم هذه الآية على أهل القرآن أن يقال: إنهم فيما بينهم على هذا الوجه النفس بالنفس، وليس في كتاب اللّه تعالى ما يدل على أن النفس بالنفس مع خلاف الملة.
قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}، يدل على جريان القصاص في العين وضوئها، وتعلق ابن شبرمة بعموم قوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}، على أن اليمنى تفقأ باليسرى، وكذلك بالعكس، وأجرى ذلك في اليد اليمنى واليسرى، وقالوا تؤخذ الثنية بالضرس، والضرس بالثنية لعموم قوله: السن بالسن.
والذين خالفوه وهم علماء الأمة قالوا: العين اليمنى هي المأخوذة باليمنى عند وجودها، ولا يتجاوز ذلك إلى اليسرى مع الرضا، وذلك بين لنا أن المراد بقوله تعالى: {الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}، استيفاء ما يماثله مما يقابله من الجاني، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره، كما لا يجوز أن يتعدى من الرجل إلى اليد في الأحوال كلها، وهذا لا ريب فيه.
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ}، يدل على بطلان قول من قوم الخمر بناء على أهواء الكفار، ولا يدل على أن الكفار لا يحلفون في بيعهم إذا أردنا تغليظ اليمين عليهم، لأنا في ذلك لا نتبع أهواءهم، لأن إتباع أهوائهم فيما ينفعهم وهذا يضرهم، فهو ضد إتباع أهوائهم، إنما المقصود به المبالغة في انزجارهم عن اليمين الكاذبة، إحياء لحق امرئ مسلم.
قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجًا}، يدل على عدم التعلق بشرائع الأولين.
قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ}، يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها، وذلك لا خلاف فيه في العبادات كلها، إلا في الصلاة في أول الوقت، فإن أبا حنيفة يرى الأفضل تأخيرها، وهو أفضل من تقديمها وعموم الآية دليل عليه.
وفيه دليل على أن الصوم في السفر أولى من الفطر.
وقال تعالى في هذا الموضوع كرة أخرى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ}، وذلك يجوز أن يكون تكرار، ويجوز أن يكون واردا في قصة أخرى تحاكموا فيها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم، كما ذكر في التفسير أن بني النضير وبني قريظة تحاكموا إليه في الدية، وكان بنو النضير أضعف وقريظة أشرف، وكانوا يجعلون دية القتيلين على التفاوت، لذلك قال: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، أي لا يعدل عن الحكم الذي أنزل اللّه تعالى عليه، إلى ما يهوون من الأحكام إطماعا منهم في الدخول في الإسلام، وسياق الكلام إلى قوله: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنه خطاب لليهود، لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه، وأخذوهم به، وإذا توجه على أغنيائهم سامحوا، فقيل لهم: {أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}:
قوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ}: يدل على قطع الموالاة شرعا.
وقوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ}، يدل على إثبات الشرع الموالاة بينهم، حتى يتوارث اليهود والنصارى بعضهم من بعض.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ}: يمنع من إثبات الميراث للمسلم من المرتد.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} الآية 54.
فيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لأن الذين ارتدوا بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة، وقد أخبر اللّه تعالى أنه يحبهم ويحبونه، وأنهم يجاهدون في سبيل اللّه ولا يخافون لومة لائم، ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي اللّه تعالى.
ولم يقاتل المرتدين بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سوى هؤلاء الأئمة، فإنه لم يأت بقوم آخرين يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية، غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر، ومثله في دلالته على صحة إمامة أبي بكر.
قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} الآية.
فإن قيل: يجوز أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام هو الذي دعاهم.
قلنا: قال اللّه تعالى لرسوله: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا}.
ولا يجوز أن يكون المراد به عليا، لأن اللّه تعالى قال: تقاتلونهم أو يسلمون، وعلي ما حارب قوما في أيامه على أن يسلموا، ولم يحارب أحد بعد النبي عليه الصلاة والسلام على أن يسلموا غير أبي بكر، فدلت الآية على صحة إمامته.
قوله تعالى: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} الآية:
يدل على أن العمل القليل لا يبطل الصلاة، فإن التصرف بالخاتم في الركوع عمل جاء به في الصلاة، ولا يبطل الصلاة.
وقوله: {وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ}. يدل أيضا على أن صدقة التطوع تسمى زكاة، فإن عليا تصدق بخاتمه تطوعا في الركوع، وهو نظير قوله تعالى: {وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}، وقد انتظم النفل والفرض، فصار اسم الزكاة شاملا للفرض والنفل، كاسم الصدقة، واسم الصلاة ينتظم الأمرين.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ}.
وذلك نهي عن الاستنصار بالمشركين.
هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي.
وأبو حنيفة جوز الاستنصار بهم للمسلمين على المشركين، وكتاب اللّه تعالى يدل على خلاف ما قالوا.